18 أيار/ مايو 2024 - عدتُ مؤخرًا من سوريا، ولقد كان هدفي من هذه الزيارة الوقوف على فهمٍ أفضل للوضع والاحتياجات على أرض الواقع والتحديات التي تجابه عملنا الإنساني هناك. ولقد التقيتُ خلال الزيارة بمسؤولين سوريين رفيعي المستوى، وجهات مانحة رئيسية، والشركاء في دمشق. وزرتُ أيضًا محافظات حمص وحماة وحلب من أجل لقاء السلطات الصحية المحلية، والتحدث مع العاملين الصحيين والمرضى، والاطلاع بنفسي على أوجه ومدى تأثُّر القطاع الصحي في سوريا.
وإن ما أدركتُه من التعقيدات والتحديات التي تواجه الشعب السوري وعملياتنا الإنسانية ليدفعني للشعور بأقصى درجات القلق. فثمة عدد هائل من الأشخاص بحاجة للمساعدة، ولا يزال ثمة الكثير من مواضع الضعف بالغة الخطورة في أنحاء كثيرة من البلد. ومما يزيد تفاقم هذا الوضع الكارثي بالأساس أن التوترات السياسية المتزايدة في المنطقة تهددُ بمزيد من التصعيد في سوريا.
إن نقصَ الموارد ليس المؤثر الوحيد في مجال الصحة في سوريا، بل توجد عوامل أخرى. فالوضع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا يتدهور بوتيرة سريعة، الأمر الذي يُعزى إلى استمرار حالة انعدام الأمن، وتغير المناخ، والمخاطر البيئية، والنزوح، والفقر، وانعدام الأمن الغذائي. وعلى الرغم من أن هذه العوامل ليست ضمن مجال قطاع الصحة، فإن لها تأثيرًا مباشرًا في مواطن الضعف في مجال الصحة على مستوى البلد ككل. لذا، أكدتُ في نقاشاتي مع كبار المسؤولين السوريين على الحاجة إلى مزيدٍ من التنسيقِ المتقدم المتعدد القطاعات على جميع المستويات للتصدي لهذه التحديات المركبة المتعددة الجوانب.
وعلى مستوى آخر، يُشار إلى أن الأمراض المزمنة مسؤولة عما يقرب من 75% من إجمالي الوفيات في جميع أنحاء البلاد. ولقد تحدثتُ، في حمص، إلى مريض في العقد الرابع من العمر يخضع بالفعل لغسيل الكلى، لكنه أخبرني بأنه مصاب بداء السكري أيضًا ولا يستطيع تحمل تكلفة أدويته، وأنه لا يوجد أطباء متخصصون لتوفير متابعة منتظمة. وعلى غرار الكثير من المرضى، لم يكن هذا المريض على دراية بالعواقب الوخيمة لترك هذا المرض وغيره من الأمراض دون علاج. وقد أعرب عن أمله في ألا يواجه مرضى السكري الآخرون المعاناة نفسها التي يقاسيها.
وإنني أشعرُ أيضًا ببالغ القلق إزاء تزايد معدلات سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة والأمهات، وهي نتيجة وخيمة لتزايد الفقر في جميع أنحاء البلد. فلقد تضاعفت معدلات سوء التغذية الحاد العام بين الأطفال دون سن الخامسة ثلاث مرات على مدى السنوات الأربع الماضية، وزاد عدد الأطفال الذين يعانون من التقزم في خمس محافظات من أصل 14 محافظة، مع الإشارة إلى أن بعض المناطق تعاني مستويات كارثية.
إن سوريا واحدة من أكبر أزمات النزوح في العالم، حيث يوجد بها أكثر من 7.2 ملايين نازح داخلي. ففي حلب، يعاني السكان ظروفًا معيشية بالغة الصعوبة نتيجة للصراع الذي طال أمده والزلزال المأساوي الذي ضرب المنطقة في شباط/ فبراير 2023. وقد تسبب عدم توفر الكهرباء في اللجوء إلى وسائل مبتكرة للتدفئة والطهي، ولكنها غير آمنة، الأمر الذي يزيد من خطر نشوب الحرائق والحروق المنزلية، ولا سيما بين الأطفال.
ونتيجة لما تعانيه البلاد من أحوال معيشية شديدة الاكتظاظ ومحدودية فرص الحصول على المياه النظيفة والصرف الصحي السليم، فإن العامين الماضيين شهدا بلاغات متواصلة عن تفشي الكوليرا، والتهابات الجهاز التنفسي الحادة الوخيمة، والحصبة، والقمل، والجرب في جميع أنحاء سوريا.
وأما النظامُ الصحي السوري، المنوط به مواجهة هذه الظروف القاتمة، فهو بالغ الهشاشة؛ ويتجلى ذلك في أن 65% فقط من المستشفيات و62% من مراكز الرعاية الصحية الأولية تعمل بكامل طاقتها، فضلاً عن النقص الشديد في الأدوية الأساسية والمعدات الطبية. ويظل العاملُ الأخطرُ والأشد إثارةً للقلق أن نصف القوى العاملة الصحية قد غادرت البلد، في حين أنه من المعلوم أن القوى العاملة الصحية هي العمود الفقري لأي نظام صحي. لذا يظل الإبقاء على القوى العاملة الصحية الماهرة وضمان توافر الإمدادات الطبية الكافية في سوريا، وفي جميع أنحاء الإقليم، أحد الأولويات الرئيسية.
وعلى الرغم مما شاهدته من عمل دؤوب وتعاون وثيق بين منظمة الصحة العالمية والشركاء من أجل إعادة توفير الخدمات الصحية وإعادة تأهيل المرافق الصحية، فإن فرص الحصول على الرعاية الصحية تظل محدودة. وعلى مستوى آخر، يساورني قلقٌ بالغ إزاء الوضع في مخيم الهول؛ والسبب أن إدارة المخيم قيدت إمكانية وصول المنظمة إلى المخيم منذ 9 أيار/ مايو، بعد أن أجبر نقصُ التمويل المنظمةَ على وقف الإحالات الطبية، مع العلم أن المنظمة أحد مقدمي الخدمات الصحية الرئيسيين في المخيم الذي بلغت الاحتياجات الصحية والمخاطر الصحية العامة فيه مستويات هائلة. لذا يجب إعادة تمكنينا من الوصول إلى سكان المخيم دون قيود، وذلك تماشيًا والمبادئ الإنسانية ومن أجل ضمان وفائنا بالتزاماتنا في مجال الصحة العامة. ويُشار هاهنا إلى أن عملنا في المخيمِ يشمل أيضًا تنسيق القطاع الصحي، ودعم التمنيع الروتيني، وإجراء أنشطة ترصد الأمراض والتصدي لها، والكثير غير ذلك.
وطوال زيارتي التي استغرقت خمسة أيام، كان انخفاض التمويل الإنساني لسوريا شاغلًا محوريًا ومثيرًا للقلق. ولقد تبين في نقاشاتي مع الجهات المانحة الرئيسية في دمشق أنهم على وعي تام بحجم الثغرات والاحتياجات. ومع ذلك، اتضح جليًا أيضًا أنهم يخضعون لقيود شديدة بسبب الأولويات الإقليمية والعالمية المتنافسة.
إن الوكالات الإنسانية تجد نفسها مضطرة في كثير من الأحيان لتحديد الأولويات، حتى على مستوى الأنشطة الأكثر أهمية المنقذة للأرواح. ويتعين علينا أحيانًا اتخاذ قرارات صعبة بتخفيض مستوى العمليات أو تقليصها بشكلٍ كبيرٍ بسبب عدم كفاية الموارد، ومن ذلك مثلاً الإحالات إلى مستشفيات الطوارئ من مخيمات تأوي نازحين في شمال شرق سوريا. وفي هذا المشهد المليء بالتحديات والمتسم بمحدودية التمويل، فإنه يمكننا تحديد الاحتياجات الأشد إلحاحًا بصورة أفضل إذا أجرينا استعراضًا شاملاً لعملياتنا الحالية للاستجابة الإنسانية، بالاستعانة بتقييم متعدد القطاعات للاحتياجات الإنسانية، ومن ثَمَّ سيمكننا تخصيص الموارد وفقًا لذلك.
وفي اجتماعاتي مع المسؤولين السوريين، أكدتُ على الحاجة الملحة للحصول على بيانات صحية مُحدَّثة للاسترشاد بها في تخطيط الاستجابة حسب الأولوية، وكذلك ضمان الاستخدام الفعال للموارد المحدودة من أجل تلبية الاحتياجات الإنسانية الأشد إلحاحًا. ولقد أبرزتُ أيضًا للشركاء في المجال الإنساني أهمية الاستفادة من تعاونهم القوي داخل فريق الأمم المتحدة القُطري في سوريا لتحديد أولويات الجهود وتعظيم أثر عملنا الجماعي.
وعلى الرغم من استمرار الحرب لأكثر من عشر سنوات، والضغوط المعقدة والمتعددة الجوانب التي تواجه الشعب السوري، فإن هذا الشعب لا يزال يُظهر صمودًا وتصميمًا مذهلين. وستظل المنظمةُ ملتزمة بتقديم الدعم. وبالمقابل، فإن عدم الاستثمار في صحة السكان سيؤدي حتمًا إلى مزيد من عدم الاستقرار في البلد، وسيشكل تهديدات للأمن الإقليمي والعالمي. ولا يمكن السماح بحدوث ذلك. إنني الآن، وبعد زيارتي، أجدني أكثر تصميمًا من أي وقت مضى على الدعوة إلى دعمٍ دولي أكبر وتعزيز الخبرة التقنية للمنظمة من أجل التصدي لهذه التحديات المعقدة. إن أرواحًا كثيرة على المحكِ، وستكون تكلفة التقاعس باهظة بكل ما تعنيه الكلمة.