15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 -
على مدار الأعوام الخمسين الماضية، شهدت النُّظُم الصحية في إقليم شرق المتوسط تحولًا أدى إلى تحسين الحصائل الصحية. وقد أسهمت القدرة على الوقاية من العدوى وعلاجها بنجاح وبتكلفة معقولة، إلى جانب عوامل أخرى، إسهامًا كبيرًا في هذا التقدُّم. وانخفضت وفيات الأطفال إلى أكثر من النصف - حيث كان معدل وفيات الأطفال الأقل من 5 سنوات 99 وفاة لكل 1000 في عام 1990، ووصل ذلك المعدل إلى 45 وفاة لكل 1000 في عام 2021. كما أن النُّظُم الصحية القوية تحد بفعالية من انتشار الأمراض السارية، وتعمل على القضاء عليها. فيمكن الآن إجراء العمليات الجراحية وعلاج السرطان بأمان وباستخدام مضادات حيوية فعالة لإدارة خطر العدوى.
ولكن الصدمة التي تنهال علينا اليوم كالصَّاعقة أن كل هذه المكاسب مُعرَّضة للخطر، إذا أصبحت الأدوية غير فعالة في مكافحة المِكروبات المُسببة للعدوى. فمقاومة مضادات الميكروبات ليست تهديدًا مستقبليًّا، بل بدأت بالفعل تتسبب في أضرار جسيمة للصحة. وعندما لا نتمكن من إدارة خطر العدوى، يموت مزيد من الناس، ويتعرض مزيد منهم للعدوى المزمنة والمعاناة، وترتفع تكاليف الرعاية الصحية.
وغالبًا ما يُشار إلى مقاومة مضادات الميكروبات على أنها تسونامي صامت. فنادرًا ما تُسجَّل مباشرةً على أنها سبب من أسباب الوفاة، ولكن لدينا الآن تقديرات موثوق بها للعبء الذي نواجهه. وتشير تقديرات العبء العالمي للأمراض إلى أن إقليم شرق المتوسط في عام 2019 شهد 431 ألف حالة وفاة ناجمة عن مقاومة المضادات الحيوية من ضمن وفيات إنتان الدم، وأن 115 ألف حالة منها تُعزى مباشرةً إلى المقاومة الجرثومية.
وتشير البيانات التي جُمعت من خلال نظام المنظمة للترصُّد العالمي لمقاومة مضادات الميكروبات واستخدامها إلى أن مستويات المقاومة في شتى أنحاء إقليم شرق المتوسط أعلى منها في أي إقليم آخر من أقاليم المنظمة أو أعلى من المتوسط العالمي. ولدينا تفسيرٌ لهذه النتيجة المؤسفة: فاستخدامنا للمضادات الحيوية يُعتبَر الأعلى، ويزداد بسرعة أكبر، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ولكن يسرني أن هناك التزامًا سياسيًّا متزايدًا بالتصدي لهذا التهديد. وفي عام 2022، وقَّعت الدول الأعضاء على بيان مسقط في المؤتمر الوزاري العالمي الثالث الرفيع المستوى بشأن مقاومة مضادات الميكروبات الذي عُقد في عُمان، وينطوي هذا البيان على الالتزام بالحد من استخدام المضادات الحيوية في إنتاج الغذاء وضمان استخدامها على النحو الملائم في مجال صحة الإنسان. ونتطلع إلى مزيد من المناقشات الرفيعة المستوى في عام 2024، في كلٍّ من الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة والمؤتمر الوزاري العالمي الرابع الرفيع المستوى بشأن مقاومة مضادات الميكروبات في المملكة العربية السعودية.
وقد قدَّمت المنظمةُ الدعمَ إلى البلدان والأراضي لإرساء الأساس اللازم للبرامج الساعية إلى مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات، وتعزيز الوقاية من العدوى ومكافحتها. وفي إطار هذا النظام، يُبلِغ الآن 19 بلدًا وأرضًا منظمةَ الصحة العالمية ببيانات الترصُّد الخاصة بمقاومة مضادات الميكروبات به.
وانطلاقًا من هذه الأسس الراسخة، يجب علينا الآن أن نتوسع في العمل على نطاق أكبر من خلال الوقاية من العدوى وتشخيصها والتدبير العلاجي لها.
أولًا: الوقاية من العدوى تجعلنا نقلل الحاجة إلى المضادات الحيوية. فنظافة المستشفيات والوقاية الجيدة من العدوى ومكافحتها من الأمور التي تمنع انتشار العدوى، وتمنح العاملين الصحيين الثقة، لكي لا يسرفوا في وصف المضادات الحيوية.
ثانيًا: تحسين التشخيص يجعلنا نتفادى الاستخدام العشوائي للمضادات الميكروبات. ويبدأ ذلك باتباع نهج سريري جيد وإتاحة الاختبارات التشخيصية الرئيسية.
ثالثًا: لا بد لنا من العلاج على نحو مناسب. وتُقسِّم المنظمةُ الآن المضادات الحيوية إلى ثلاث فئات: فئة متاحة، وفئة خاضعة للمراقبة، وأخرى يجب الحفاظ عليها على سبيل الاحتياط. ويَستخدم هذا التصنيفُ المُسمى "AWaRe" الإشارات الخضراء والصفراء والحمراء لتمييز هذه الفئات عند اختيار المضادات الحيوية. ونشرت المنظمةُ كتابًا لتصنيف المضادات الحيوية وفقًا لفئات الإتاحة والمراقبة والاحتياط وأصدرت تطبيقًا هاتفيًّا للغرض نفسه من أجل تقديم إرشادات بشأن التدبير العلاجي للمتلازمات المعدية الشائعة في مرافق الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات. فكثيرٌ من الحالات المرضية لا يحتاج إلى العلاج بالمضادات الحيوية. وفي حالة الحاجة إلى مضادات حيوية، غالبًا ما تكون هذه المضادات الحيوية من الفئة "المتاحة"، وهي المضادات الحيوية الأقدم والأرخص والأكثر مأمونية، والأقل ميلًا إلى التسبب في حدوث مقاومة. وتوصي المنظمةُ بأن تكون 60% من جميع المضادات الحيوية المُستخدمة في أي بلد من هذه الفئة المُشار إليها باسم فئة المضادات الحيوية "المتاحة". ولا يزال الطريق طويلًا أمام كثير من بلداننا في الإقليم لبلوغ هذه الغاية.
وقد تباطأ التقدم خلال جائحة كوفيد-19، وزاد الاستخدام غير الملائم للمضادات الحيوية. إلا أن الجائحة أكدت أهمية الوقاية من العدوى ومكافحتها، وحفَّزت على إحراز تطورات فعلية في هذا المجال: فيوجد الآن برنامجٌ للوقاية من العدوى ومكافحتها لدى 17 بلدًا وأرضًا من بلدان الإقليم وأراضيه الاثنين والعشرين. ومن واجبنا أن نحافظ على استمرار هذا الزخم.
وبينما نحن نتحدث الآن، فإن قلوبنا ووجداننا مع جميع المتضررين من الطوارئ المُعقَّدة في شتى أنحاء الإقليم، ولا سيما الصراع المتصاعد في الأرض الفلسطينية المحتلة. ولا بد من التركيز على العلاج المُنقذ للأرواح والمساعدة الإنسانية، ولكن علينا ألا ننسى أنه في الصراعات التي وقعت على مر التاريخ، قتلت حالات العدوى أشخاصًا أكثر ممَّن قتلتهم الرضوح المباشرة. ولذلك، يجب علينا أن نبني في برامجنا نُظُمًا فعالة للوقاية من العدوى وتشخيصها وعلاجها في البيئات الهشة والضعيفة والمتضررة من النزاعات.
وقبل أن أختتم حديثي، أود أن أذكر أيضًا أن خطر مقاومة مضادات الميكروبات لا يقتصر على البشر فحسب. فلا بد من العمل الجماعي لمكافحة ظهور مقاومة مضادات الميكروبات وانتشارها بين الحيوانات وفي قطاع الإنتاج الغذائي. وهذا النهج الذي يشمل قطاعات صحة الإنسان وصحة الحيوان والزراعة والبيئة يُسمى "نهج الصحة الواحدة". وقد شهدت جميع هذه القطاعات إساءة استعمال المضادات الحيوية على نطاق واسع. وتُهدِّد مقاومة مضادات الميكروبات صحة الحيوان والإنتاج الغذائي، فضلًا عن صحة الإنسان. وتُعدُّ الجهود الموحدة للحد من الاستخدام غير الملائم للمضادات الحيوية والتصدي لمقاومة مضادات الميكروبات خير مثال على رؤيتنا الإقليمية: "الصحة للجميع وبالجميع".