الكلمة الافتتاحية للمديرة الإقليمية الدكتورة حنان حسن بلخي في الإحاطة الإعلامية عن مستجدات الطوارئ الصحية في إقليم شرق المتوسط

4 كانون الأول/ ديسمبر 2024

تحية طيبة من القاهرة، وأسعد الله أيامكم بكل خير...

هذه هي الإحاطة الإعلامية الأخيرة لنا في عامنا هذا، وما زلنا منذ بدأنا نؤكد أن احتياجات إقليمنا الصحية تتزايد باستمرار، ونستكشف آفاق المستقبل فيما سيأتي.

يكاد هذا العام الصعب على إقليمنا ينتهي، ويذهب بكل ما فيه من أحزان وآلام وخسائر فادحة في الأرواح، وما يزال القادم يحمل تحديات أشد وأصعب، ولكننا لن نمل من السعي إلى إحلال السلام، والعمل من أجل إعادة البناء والتعافي.

وقد ازدادت الأمور سوءا في الأسبوع الماضي بانفجار الوضع في سوريا، فتفاقم الاضطراب الحادث في إقليم شرق المتوسط.

ونحن في خضم هذه المحنة الجديدة التي تمر بها سوريا، نؤكد أن قيم الإنسانية والكرامة مقدمة على اعتبارات السياسة والنزاعات، ومن واجبنا حماية أرواح المدنيين والعاملين في المجال الإنساني والبنية التحتية، خاصة من يعملون في الخدمات الصحية، التي هي طوق النجاة في أوقات النزاعات والحروب.

ونحن هنا نراقب الوضع وجميع التطورات بحذر شديد، ونمد يد العون ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ففي الأسبوع الماضي -على سبيل المثال- هبطت في دمشق طائرة مستأجرة، محملة بمجموعات من أدوات استجابة الطوارئ، وذلك في الوقت نفسه الذي أوصلنا فيه أدوية وإمدادات أساسية إلى إدلب لتقديم الدعم الطبي الفوري.

ونحن نعمل على تعزيز خدمات رعاية المصابين بالرضوح في المستشفيات الموجودة في المناطق المتضررة من تصاعد القتال، ونعمل كذلك على استعادة العمليات في المرافق ذات الأولوية، وحشد الفرق الصحية. والمساعدات تصل بالفعل إلى من يحتاجون إليها، ولكن الأهم من وصول المساعدات هو ضمان استمرارها بلا عوائق من أي نوع، وكل ذلك لدعم شركائنا في مجال الصحة، والحفاظ على هذه الجهود. ولدينا التزام راسخ بدعم الشعب السوري، وضمان حقه الأساسي في التمتع بالصحة.

والآن، أود أن أسلط الضوء على الوضع في لبنان.

يبدو حتى الآن أن وقف إطلاق النار في البلاد ما زال ساريا، رغم ما تبثه التقارير من أخبار عن انتهاكات تحدث بين الحين والآخر.

ونحن، إذ نشعر دوما بالارتياح حيال أي وقف للقتال، ما زال واجبا علينا مواجهة الدمار الهائل الذي أصاب البلاد، فقد ترك النزاع آلاف المحزونين الذين أصابهم الكرب بعد أن فقدوا أهلهم وأحباءهم ومنازلهم أيضا، ومنهم من يعاني إصابات ستغير مجرى حياتهم بالتأكيد، وبعضهم قد يظل أعواما وأعواما حتى يشفى من جراح الجسد وجراح النفس!

والنزاع الحادث له تأثير مدمر وهائل على الرعاية الصحية في لبنان خاصة، فمنذ 7 أكتوبر 2023، أسفرت نصف الهجمات تقريبا على الرعاية الصحية في البلاد عن وفيات، منهم -على الأقل- عامل صحي واحد أو مريض، وهو أعلى معدل للوفيات الناجمة عن الهجمات على الرعاية الصحية في أي نزاع حالي.

والآن نرى آلافا من المدنيين قد عادوا إلى مساكنهم التي هدمت، والخدمات الصحية وقد انهارت، وشبكات مياه وصرف صحي وقد دمرت، وتلوح في الأفق فاشيات لأمراض وبائية تهدد حياتهم القادمة.

وفي ظل كل هذه الظروف العصيبة، لا تغيب منظمة الصحة العالمية عن الميدان، وتسعى لتلبية كل الاحتياجات العاجلة، والأولوية لدينا هي لإصلاح المرافق الصحية المتضررة والمغلقة وإعادة تشغيلها، ونجري تدريبات على التدبير العلاجي للإصابات الجماعية في المستشفيات في جميع أنحاء لبنان. وتعكف الفرق الطبية للطوارئ على علاج الحروق الشديدة وإجراء الجراحات الترميمية، ويجري تسليم لوازم إسعاف المصابين وإمدادات الدم لضمان استمرار تقديم الرعاية المنقذة للحياة.

وإذا ما عدنا إلى غزة، التي تعيش في مأساة لا تخطر على قلب بشر!

ففي وسط كل هذه المحن التي يعيشها أهل غزة، جاء الشتاء بما لا يطيقونه، ف 90% منهم يعيشون في خيام، لا تقيهم البرد ولا المطر، وهم جياع، ويأتيهم الموت من كل مكان. وأنا، بصفتي المديرة الإقليمية، أشعر بأن معاناتهم لا يتحملها بشر، وأتمنى أن يشعر صناع القرار بما أشعر به حقا.

ولكن في ظل هذه الظروف الحالكة، ما زالت الرعاية الصحية في غزة تقف على قدميها، والعاملون الصحيون يعملون بلا كلل للحفاظ على استمرار تقديم الخدمات بأقل قدر من الموارد، على الرغم مما يتحملونه من مخاطر على صحتهم وأرواحهم. فتراهم يعملون ليل نهار وقد أصابت بعضهم جروح، وفقد بعضهم أهلهم وأطفالهم، ويعيشون صدمات نفسية يتعرضون لها كل يوم حينما يموت بين أيديهم أشخاص كان من الممكن إنقاذهم، إذا توفرت إمدادات طبية إضافية. وأنا على يقين بأن عالمنا هذا ليس فيه كثير مما يستحقون أن يكونوا قدوة ونماذج ملهمة مثل العاملين الصحيين في غزة.

ولا تفوتني هنا الإشادة بجهودنا الجماعية، وبدور الأونروا الذي لا غنى عنه لشعب فلسطين، فإذا ما اضطرت الأونروا إلى وقف نشاطها، أصبح الوضع كارثيا أكثر فأكثر في مجال الاستجابة الإنسانية.

ولا تدخر منظمة الصحة العالمية وشركاؤها جهدا في مد يد العون والدعم، بإيصال الإمدادات الطبية وتزويد المستشفيات بالوقود وإيفاد الفرق الطبية للطوارئ، وذلك في ظل القيود الشديدة التي تفرضها السلطات الإسرائيلية. ولكني أقولها بكل وضوح: تقديم المساعدات ليس حلا لإنهاء معاناة غزة، بل إن السلام هو الحل الوحيد، ولا سبيل إلا بوقف إطلاق النار.

والآن إلى السودان، تلك الكارثة الإنسانية التي لا يراها أحد، والمعاناة التي فاقت الحدود، فقد اشتد النزاع وزادت الأعمال العدائية حدة. وأدى النزاع الدائر هناك إلى أن زاد عدد النازحين -في العام الماضي- بنسبة تجاوزت 100%، ولدينا اليوم أكثر من 14 مليون نازح، داخل السودان أو خارجه.

وقد أدت هذه الحرب المستعرة إلى حدوث أكبر أزمة جوع ونزوح في عالمنا المعاصر، تتحمل فيها النساء والفتيات العبء الأكبر، إذ يعانين من الجوع والتشرد، ويتعرضن بوحشية لعنف جنسي مرعب، بل إن كثيرا منهن يلجأن إلى الانتحار هربا من الاغتصاب والاعتداء الجنسي.

ورغم كل ما نبذله، فالمعاناة هناك دائرة لا نهاية لها، فبعض المناطق الأشد احتياجا لم تصل إليها يد المساعدات حتى الآن، في ظل انعدام الأمن وكثرة العقبات البيروقراطية والتحديات اللوجستية، التي قيدت يد المنظمة عن تقديم المساعدات الصحية الأساسية، لا سيما في ولايات دارفور والخرطوم والجزيرة وسنار وكردفان.

ورغم أننا نبذل قصارى جهدنا، بدءا من دعم جهود التمنيع ضد الكوليرا والملاريا، ووصولا إلى نشر الفرق الطبية المتنقلة وتعزيز ترصد الأمراض وتوفير الإمدادات الطارئة، فلا يزال السودان في حاجة ماسة إلى تحسين سبل إيصال المساعدات الإنسانية.

ونحن نودع عاما مضى، ونستقبل عاما جديدا، ما زلنا على العهد، بعزم ثابت وعمل دؤوب، ولا ننسى أن نتوجه بخالص شكرنا لكل المانحين والشركاء، الذين كانوا عونا للمنظمة في إقليم شرق المتوسط في خدمة أولئك الذين يعيشون أسوأ الظروف.

وفي العام ٱلماضي، كان لدينا طوارئ صحية عديدة لم نستطع الحصول على تمويل كاف للاستجابة لها. فعلى سبيل المثال، بلغ ما نحتاجه هناك 136 مليون دولار، لم نحصل منه إلا على 30%. وفي الصومال، كانت الاحتياجات 82 مليون دولار، توفر منها 41% فقط. وسوف نحتاج إلى دعم أكبر في عام 2025، إلى جانب التوصل إلى حلول سياسية لإنهاء النزاعات وضمان إيصال المساعدات دون عوائق.

ولم يكتف عام 2024 أن يكون مأساويا للشعوب فقط، بل للعاملين في مجال المساعدات الإنسانية أيضا، إذ قتل في هذا العام من العاملين في هذا المجال أكثر ممن قتلوا في أي عام مضى. بمعدل يفوق ضعف المتوسط السنوي في السنوات العشر السابقة. وكانت معظم هذه الوفيات ناجمة عن الأعمال القتالية الواسعة النطاق والخسائر الجماعية في صفوف المدنيين في غزة والسودان.

لا ينبغي أن يكون إقليمنا موسوما بأسوأ النزاعات، وما تخلفه من مجاعات منتشرة فيه، ولا معروفا بأكبر عدد من النازحين، ولا مقرونا بالخسائر ٱلمأساوية في أرواح العاملين في المجال الإنساني. فإقليم شرق المتوسط غني بثقافته المتنوعة، عريق بتاريخه الممتد، وهو يستحق أفضل كثيرا مما يعيشه الآن، ولا ينبغي أن يكون إرث إقليم شرق المتوسط هو الموت وٱلدمار وٱلحرب وٱلجوع.

نسأل الله عز وجل، ونحن نطوي صفحة هذا العام، أن يكون عام 2025 عام خير لنا ولشعوبنا، وأن ينهي فيه النزاع والصراع، وأن تنتهي حالات الطوارئ، وأن يكون صفحة جديدة بيضاء بالسلام والازدهار، وتحقيق الصحة والكرامة لجميع الناس.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...