للوهلة الأولى، لا يمكن للمرء أن يتخيل عند لقاء نادية (وهذا ليس اسمها الحقيقي) أنها قد خاضت مؤخرًا ستة أسابيع متواصلة من الخوف المستمر والشعور الشديد بالخسارة والفقد. وكما هي الحال مع معظم السودانيين - الذين لا يزالون قادرين على الصمود بشكل ملهم في مواجهة العديد من حالات الطوارئ الصحية - تخفي نادية معاناتها وراء ابتسامة مشرقة وأسلوب تعامل سلس.
ومع أن نادية أكدت سلامة جميع مَن تعرفهم عند سؤالها عما إذا كانوا آمنين أم لا، إلا أن مرارتها وألمها تكشفا في وقت لاحق من الحوار حين ذكرت وفاة زوجة أحد الأصدقاء وشقيقه عندما فتح رجال مسلحون النار على سيارتهم. وقالت، وقد علت وجهها الابتسامة من جديد: "لأجل أشقائي الصغار، أخفيت خوفي ورعبي وراء ستار من التفاؤل" ثم ما لَبِثَت أن أقرت بعد صمتٍ وجيزٍ قائلة: "لكن شعوري الأقوى كان اليأس المطلق".
هل شهدت نادية تأثيرًا للهجمات على المرافق الصحية على حياة أشخاص تعرفهم؟ أكدت نادية أن كل أسرة في الخرطوم عانت أمورًا مماثلة وأنها تعرف حالات تأثرت بتلك الهجمات، وذكرت أمثلة عليها قائلة:"نعم، كان لديَّ أصدقاء يبحثون بكل السبل عن أدوية منقذة للحياة لوالديهم المرضى، ووالد صديقة يعاني مشاكل في القلب لم يتمكن من الوصول إلى المستشفى، فاصطحبته ابنته في رحلة مدتها 8 ساعات من الخرطوم لتصل به إلى العناية المركزة، ولم تتمكن القريبات الحوامل من الذهاب إلى الزيارات الطبية المقررة، واضطرت بعضهن إلى الولادة في المنزل في ظروفٍ مروعة، وعجز والد صديق مقرب عن الذهاب إلى مركز لغسيل الكلى بسبب اشتباكات عنيفة في حينا وتدهورت حالته بشكل سريع حتى تمكنت ابنته من نقله حتى عبور الحدود ثم نقله إلى المملكة المتحدة".
وبصرف النظر عن الاحتياجات المتنوعة لشعب السودان اليوم فيما يخص الصحة البدنية، بدءًا من علاج الإصابات الرضحية الناجمة عن العنف المستمر إلى أدوية الأمراض المزمنة وعلاج الأمراض المنقولة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، فإن احتياجات الصحة النفسية صارت هائلة هي الأخرى بالقدر نفسه. في أسى وبزفرة حسرة، قالت نادية وهي تحاول جاهدة وضع ابتسامة خافتة على شفتيها: "كنت ولا أزال تنتابني مجموعة متنوعة من المشاعر بدءًا من الخوف الشديد والارتباك والغضب عندما كانت عيناي تشهدان تدمير الخرطوم الحبيبة".
وتذكر نادية اللحظة الحاسمة التي أدركت فيها العائلة أن الوقت قد حان للرحيل:
"أتذكر تلك اللحظة بوضوح. كان ذلك يوم الاثنين الموافق 24 نيسان/ أبريل. وكان دويّ قذائف المدفعية قد صار قويًا جدًا وقريبًا جدًا من البيت؛ حتى إن النوافذ كانت تهتز مع وقعِ إطلاق النار المستمر. وفي حين حاولت أخواتي الصغيرات النوم في تلك الليلة، جلسنا أنا وأمي بجانبهن على الأرض. توسلت إليها وأخذت أحاول إقناعها بالمنطق أن تلك الفتيات الصغيرات يستحققن وضعًا أفضل من هذا، خاصة وأن مخزون الطعام لدينا كان قد تدنى وصارت الكهرباء تنقطع أكثر فأكثر. ثم اتخذنا أخيرًا قرارًا جماعيًا بالرحيل إلى القاهرة. ومع أن عمي الذي يعيش معنا قد وَجَدَ قبل بضعة أيام رصاصات في جدار المطبخ، فإنه قرر البقاء وعدم اللحاق بنا، قائلاً: "إن هذا هو المنزل الذي يعرفه منذ 40 عامًا"، وكرر: "لن أترك هذا المنزل ومعي ربي يحميني ويهديني." وكان تركه هناك واحدة من أصعب اللحظات التي عشتها."
وعندما سُئلت نادية إذا كانت قد شعرت بتحسن على إثر المغادرة والخروج من هناك قالت: "بالتأكيد شعرت براحة، ولكن شعرت أيضًا بألمٍ وشعور بالنزوح والتشرد. وانهمرت دموعي عندما أعلن السائق مغادرتنا ولاية الخرطوم وتوجهنا إلى حلفا".
وفي حين يغلب أن يسرد لاجئون آخرون تجاربهم، فإن نادية قد شردت في تأمل حتى استدركت الأمر وكأنها قد عادت فجأة من خواطرها وأفكارها التي حملتها بعيدًا إلى اللحظة الحالية: "في الليلة الأولى التي قضيناها في حلفا، كان الصمت والهدوء غريبين جدًا بالنسبة إلي ... كان من غير المألوف لي أن أنام دون خوف أن السقف قد ينهار على رؤوسنا في أي ثانية. كانت أول مرة أنام فيها لأكثر من ثلاث ساعات منذ تسعة أيام".
وماذا عن الآن، هل تعيشين في أمان من جديد؟ ابتسمت نادية وأجابت: "يجثم على صدري شعور لن يزول بكارثة قادمة".