شهدت اقتصادات عدة دول في الشرق الأوسط نـُمواً مُطِّرداً في العقود الأخيرة حتى في ظل التحدِّيات الناجمة عن تدهور أسعار النفط. وتجدر الإشارة إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في هذه البلدان ارتفعت معدلات السمنة والبدانة بينهم على نحو يضاهي النمو الاقتصادي، وذلك في منعطف خطير يكشف لنا أن ارتفاع المستوى الاقتصادي والاجتماعي يؤدي في الأغلب إلى تردّي الوضع الصحي، على الرغم من الإنجازات الرائعة التي تحققت في مجال خدمات الرعاية الصحية.
والأسباب واضحة.
يترتب على الثروة غالباً خلق فرص لنمط حياة خالٍ من النشاط بسبب قيام الأفراد بشراء السيارات وأداء أعمال في حياتهم اليومية يقل فيها النشاط البدني. وفي واقع الأمر، يُعدُّ الأشخاص الذين يعيشون في هذا الإقليم أقل التزاماً بالنشاط البدني عمَّن يعيشون في أي إقليم آخر في العالم.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الدخل الجيد يتيح فرصة لأن يصبح الناس أكثر إسرافاً في تناول الطعام. كما زادت حالياً أعداد الأفراد القادرين على تحمل كلفة الحصول على اللحوم والأطعمة "الملائمة"، التي من المرجح أن تصنَّع باستخدام مستويات مرتفعة من الملح والدهون المهدرجة والمشبعة. وعلاوة على ذلك، فإن أساليب التسويق المتطورة وغير المـُقيّدة للأغذية والمشروبات الغنية بالدهون والسكريات والأملاح للأطفال والمراهقين قد جعلت الاستهلاك ينجرف نحو الأطعمة عالية السعرات ومنخفضة القيمة الغذائية.
وقد ترتب على ذلك تغيرٌ جذري في نمط استهلاك الأطعمة في إقليم شرق المتوسط. فالناس الآن يتناولون الأطعمة كثيفة الطاقة، مع تجاوز متوسط استهلاك البالغين من السعرات الحرارية 2700 كيلو سعر حراري يومياً، بينما يبلغ المتوسط الموصى به 2000 كيلو سعر حراري يومياً.
كما أن نسب الملح والدهون المهدرجة والسكر في النظام الغذائي اليومي عبر الإقليم تزيد كثيراً عن الحدود التي تعتبرها منظمة الصحة العالمية حدوداً صحية.
ولنأخذ استهلاك الملح كمثال، إذ يتجاوز 10 جرامات لكل شخص يومياً، أو ما يزيد على ضعف المستوى الموصى به من جانب منظمة الصحة العالمية، في معظم بلدان الإقليم.
والملح هو السبب الرئيسي في ارتفاع ضغط الدم، الذي يعدُّ، إلى جانب السمنة، سبباً رئيسياً في حدوث السكتات الدماغية وأمراض القلب. ومن ناحية أخرى، فإن انخفاضاً بمقدار زهيد (1 جرام لكل شخص يومياً) في استهلاك الملح من شأنه أن يقلل حدوث الوفيات الناجمة عن السكتات الدماغية والنوبات القلبية بمعدل يتجاوز 7%.
كما تعد الزيادة في استهلاك الدهون إحدى العواقب الأخرى التي تترتب على التغيرات في نمط الحياة في منطقة الشرق الأوسط. وحسبما جرت العادة، كان محتوى الدهون في الأطعمة المستهلكة في الشرق الأوسط منخفضاً جداً، إلا أن استهلاك الدهون بات يتزايد تدريجياً، لاسيَّما استهلاك الدهون المهدرجة. وهذه الدهون الناتجة عن عمليات التنقية الصناعية هي مواد لها تأثير سام على القلب.
وقد ارتفع معدل انتشار السمنة، وكذلك داء السكري، مع ارتفاع محتوى الدهون، مما أدى إلى حدوث وباء أكثر خطراً في هذا الإقليم عنه في أي إقليم آخر في العالم.
وربما هناك هاجس أكثر أهمية يتمثل في كمية السكر التي يستهلكها الناس، حيث يتجاوزوا في نظامهم الغذائي حدود الحلويات التقليدية مثل التمر إلى الأطعمة التي تحتوي على سكريات مكررة وبكميات كبيرة. ويمتلك الإقليم أسرع معدلات النمو في استهلاك السكر حول العالم، وهو معدّل يقدّر حالياً بأكثر من ثلاث أضعاف الاستهلاك اليومي الموصى به من جانب منظمة الصحة العالمية.
ويبلغ متوسط استهلاك السكر في الشرق الأوسط 85 جراماً يومياً، في الوقت الذي توصي فيه منظمة الصحة العالمية بأن يكون الحد الأقصى لاستهلاك السكر 10% من مجمل استهلاك الطاقة (50 جراماً في اليوم). وفي الوضع الأمثل، ينبغي للأفراد السعي إلى الوصول إلى نصف هذا الرقم، أي ما يعني انخفاضاً حاداً لمتوسط الاستهلاك الحالي.
اليوم، هناك ملايين من الأطفال والكبار في الإقليم ممن يستهلكون 3-4 مرات أكثر من الحد المقترح الذي يضمن لهم التمتع بصحة جيدة.
ويُعدُّ استهلاك كميات عالية من السكر أكثر بعثاً للقلق إذا ما تحدثنا عن الأطفال؛ فتلك هي النقطة الزمنية في حياة الإنسان التي تتحدد فيها أنماط حياته والعواقب التي تترتب عليها طيلة العمر. والقائمون على تسويق الأغذية يعرفون كيفية استغلالها.
وقد أظهرت دراسات عديدة أن الإعلانات تؤثر في تفضيل الأطفال لأطعمة معينة وطلبات شرائها وأنماط استهلاكها. ولهذا، فالقائمون على التسويق يصلون للأطفال في المدارس ودور الحضانة والأسواق التجارية، وعبر التلفاز والإنترنت، وفي مواقع وبيئات أخرى كثيرة.
وتهيمن الأطعمة على الإعلانات الموجّهة للأطفال، وهناك خمس فئات من المنتجات هي الأبرز بين تلك الإعلانات، وهي: المشروبات الغازية، والحبوب المحلاة مسبقاً، والحلويات وغيرها من السكاكر، والوجبات الخفيفة، فضلاً عمَّا تقدِّمه مطاعم الوجبات السريعة.
وقد وصل بنا الحال اليوم إلى تخصيص 62% و34% من مجمل الإنفاق على الأنشطة التسويقية للترويج إلى الأطعمة غير الصحية والمشروبات الغازية، على الترتيب. وقد رأينا عواقب ذلك؛ ففي المدة من عام 2010 إلى 2015، ارتفعت مبيعات المشروبات الغازية بنسبة 50%، في الوقت الذي ارتفعت فيه مبيعات حبوب الفطور للأطفال بمقدار الضعفين خلال نفس المدة.
وقد وجدنا في إقليم شرق المتوسط أن الأطفال يستجيبون للإعلانات على النحو ذاته تقريباً بصرف النظر عن موقع بلدانهم على مقياس التنمية. وفي واقع الأمر، هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن الأطفال في البلدان النامية قد يكونون أكثر عرضة لأنشطة ترويج الأطعمة نظراً لقلة درايتهم بالحيَل الإعلانية، ولأنهم نقطة أساسية تستطيع دوائر الصناعة النفاذ من خلالها نظراً لأن الأطفال أكثر مرونة وأكثر استجابة عن آبائهم وأمهاتهم، فضلاً عن أنهم يربطون ما بين العلامات التجارية في البلدان المتقدِّمة وبين مظاهر الحياة التي يرغبونها.
ويفاقم خمول النشاط البدني من الآثار المترتبة على زيادة استهلاك السعرات الحرارية الفارغة؛ فقد أشارت التقديرات إلى أن 25% من الرجال و40% تقريباً من النساء في بلدان إقليم شرق المتوسط لم يمارسوا ما يكفي من التمرينات البدنية. وهذه الأرقام، في واقع الأمر، تثير القلق وتأسر الانتباه، إذا ما تحدثنا عن الفئات العمرية الأصغر: 85% من الفتيان المراهقين وما يزيد على 90% من المراهقات لا يمارسون النشاط البدني الكافي. وبالنظر لكل هذه الأرقام، نجد أن إقليم شرق المتوسط يأتي في الصدارة بين أقاليم العالم.
وتؤدي عوامل الخطر المشار إليها إلى تفشي وباء فرط الوزن والسمنة التي نراها اليوم في معظم بلدان الشرق الأوسط. وفي حقيقة الأمر، تمتلك البلدان الأكثر ثراءً في هذا الإقليم بعضاً من أعلى معدلات فرط الوزن والسمنة في العالم. وفي بعض تلك الدول، هناك ما يزيد على شخصين من بين كل ثلاثة أشخاص بالغين يعانون فرط الوزن وما يزيد على شخص من بين كل ثلاثة أشخاص مصابون بالسمنة.
ويمكن أن تكون زيادة الوزن مميتة، بالإضافة إلى مرض السكري لأنه يزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض القلبية والسكتات الدماغية وبعض السرطانات. واليوم، أصبح إقليم شرق المتوسط يمتلك أعلى معدَّل انتشار للسكري في جميع أنحاء العالم. فهناك ما يزيد عن 20% من الأشخاص البالغين مصابون بالسكري في بعض البلدان، لا سيَّما في منطقة الخليج.
والسكري هو قضية تثير القلق بصفة خاصة نظراً لأنه يزيد بصورة كبيرة من مخاطر الوفاة والإعاقة؛ إذ تتضاعف احتمالات الإصابة بأمراض القلب مرتين بين الرجال المصابين بالسكري وأربع مرات بين النساء المصابات به، وهذه الأمراض هي السبب الأول في الوفاة على مستوى العالم.
والمصابون بالسكري تزيد احتمالات إصابتهم أيضاً بالسكتات الدماغية ثلاث مرات، وتزيد احتمالات خضوعهم لبتر أحد الأطراف 25 مرة، وغالباً يكون البتر في القدم أو جزء من الرجل. إن السكري هو السبب الأول في إصابة الناس بالعمى في المرحلة العمرية من 30 إلى 69 عاماً. وما لم تطرأ تغيرات جوهرية على نمط الحياة، سيواجه الشرق الأوسط في العقود القليلة القادمة وضعاً مدمراً؛ حيث سوف تنعكس المكاسب الصحية التي تحققت على مدى العقود القليلة الماضية وتصاب نظم الرعاية الصحية بالإنهاك.
ومع ذلك، فهذا المرض يمكن الوقاية منه بالتريض وتناول الأطعمة التي ينخفض بها محتوى الدهون والسكر. وهناك أدلة واضحة على أن اتباع أنماط حياة صحية والاحتفاظ بوزن طبيعي من شأنه أن يقي الناس الإصابة بالسكري ومضاعفاته.
علاوة على ما تقدم، فإن هناك رابطاً راسخاً بين الإصابة بالسكري وتعاطي التبغ، إذ من المـُحتمل أن يمثل التدخين وارتفاع ضغط الدم والسكري مزيجاً فتاكاً، ولذا، لابد أن يكون خفض استهلاك الملح والابتعاد عن تعاطي التبغ جزءاً لا يتجزأ من تغيير نمط الحياة.
ويتطلب السكري وغيره من الأمراض رعاية ومداواة على المدى الطويل. وقد تتطلب الرعاية الصحية لداء السكري على وجه الخصوص تكاليف باهظة. ولذلك، فقد وافقة الحكومات مؤخراً على طرح هدفٍ يرمي إلى إيقاف الارتفاع في معدلات السمنة بحلول عام 2025.
ولابد للحكومات من اتخاذ خطوات جريئة من أجل مساعدة مواطنيها على تناول غذاء صحي، الأمر الذي يعني إخراج الغذاء غير الصحي من الصورة تماماً، عبْر زيادة برامج التثقيف الصحي في المدارس، ومن جانب الأطباء في عملهم الاعتيادي في المستشفيات، فضلاً عن الترويج للأنظمة الغذائية الصحية عبْر وسائل الإعلام العامة.
باختصار، يجب على الحكومات أن تتوقف عن دعم أو السماح بتسويق وبيع الأطعمة الضارة بصحة الناس التي من شأنها أن تزيد تكلفة الرعاية الصحية زيادة فلكية.
وعلى الحكومات أيضاً أن تبدأ في تهيئة الظروف التي تشجع على ممارسة النشاط البدني، وأن تأخذ خطوات فعالة صوب الوقاية من تعاطي التبغ. وهنا توصي منظمة الصحة العالمية البلدان بتبني مباديء توجيهية وطنية بشأن النشاط البدني وتنفيذها، وتحسين إمكانية استخدام البنى التحتية اللازمة للمشي وركوب الدراجات الهوائية، وتعزيز عناصر السلامة بها، ودمج النشاط البدني في المدارس والجامعات وأماكن العمل والعيادات والمجتمع بأكمله، وإطلاق حملات جماهيرية من خلال اتخاذ مبادرات إعلامية وتسويقية من أجل تحفيز الناس على الالتزام بالنشاط البدني.
إن بناء بلدٍ يتمتع أبناؤه بالصحة هو خيار سياسي؛ وقوة الاقتصاد وإن كانت تجلب الاستقرار إلى المجتمع، فإنها غير كافية، إذا يتعين أن تترافق معها خيارات تتعلق بالصحة. ولحسن الحظ، فإن تلك الخيارات ميسورة التكلفة والموارد اللازمة لدعمها وتنفيذها متاحة بالفعل. وضمان صحة المواطنين وعافيتهم إنما يتطلب القوة ذاتها في القيادة والجسارة في اتخاذ القرارات التي تخلق اقتصاداً ناجحاً. وهنا ينبغي على الحكومات أن تأخذ زمام القيادة في كل جوانب المجتمع وأن تتخذ خطوات جريئة من أجل الحيلولة دون وقوع الكارثة الصحية والمالية التي لا مفر منها إن تركنا وبائي السمنة والسكري بلا مواجهة.
الدكتور علاء الدين العلوان، المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط